المصافحة التاريخية بين الغنوشي وفرنسا(خلفية المشروع الفرنسي في تونس،فرنسا ومشروع الشيخ،،وإحياء البورقيبية الجديدة..)
كمال الصيد*
كل المحطات التاريخية التي مرت على طريق العلاقات التونسية الفرنسية منذ مائتي سنة ويزيد تشترك في ثابت واحد في الدبلوماسية الخارجية الفرنسية وهو اعتبار تونس ضمن مدى التوسع الفرنسي الذي يحدد وجودها وكيانها ويحقق استمرارها. لقد استوعبت فرنسا عبر تجارب التاريخ على ضفتي المتوسط شمالا وجنوبا أن مجالها الحيوي هو السيطرة على شمال إفريقيا وجنوب المتوسط كعمق استراتيجي وحتى حضاري. لعل هذا الدرس الاستراتيجي تعلمته فرنسا من الحضور العثماني عبر قرون في جنوب البحر المتوسط والذي كان يمثل الثقل العسكري والحضاري للإمبراطورية العثمانية المجسمة آنذاك في انتشار سفن بربروسة على ذلك المدى الطويل من قبرص إلى جبل طارق انطلاقا من الموانئ العسكرية الجزائرية، أو ربما تعلمته من القائد التونسي القرطاجي حنبعل الذي بنى مجده على حساب روما انطلاقا من مرفأ قرطاج على شاطئ جنوب البحر المتوسط ومنها غزا أوروبا الرومانية مرورا بشواطئ فرنسا الجنوبية.
1) خلفية المشروع الفرنسي في تونس
كانت أول فرصة أتيحت لفرنسا لتحقيق هذا الثابت في السياسة الخارجية هو احتلال الجزائر سنة 1830م ،عندما اختلت موازين القوى الدولية لصالح أوروبا بفعل الثورة الصناعية واكتشاف ثروات القارة الأمريكية، ثم احتلت تونس بعد نصف قرن بعدما استقر لها الوضع بالجزائر بالحديد والنار، وبعدما مهدت الأرض التونسية لوضع الحماية من خلال إنهاك الخزينة التونسية بالديون وتواطئ الجالية الأوروبية على الايالة التونسية وبعض من الرجال الفاسدين في الدولة التونسية إلى حد إعلان شبه الإفلاس وتعيين الكومسيون على خزانة المالية التونسية.
لم تكتف فرنسا من أجل تثبيت وجودها في المنطقة الجنوبية لبحر المتوسط على الخيارات العسكرية المتوحشة بالاستعمار والاحتلال بل عمدت إلى صناعة طبقة سياسية وفكرية موالية لأطروحاتها العلمانية المتشددة والمعادية لهوية الشعوب المستعمرة. وفي تونس عطلت مشاريع الإصلاح التربوي والفكري والسياسي التعددي والديمقراطي بينما شكلت طبقة درست في كليات فرنسا وحظيت بالدعم والحماية من أجل خلق دولة عميقة تنافح عن مصالح فرنسا في وجودها أو في غيابها.
في هذا التوجه السياسي المخطط منعت فرنسا أثناء فترة الحماية من تواجد أحزاب ذات مرجعية إسلامية وتصدت لكل محاولات التأسيس على خيار الهوية العربية الإسلامية ويأتي الانقلاب على الحزب الدستور القديم برئاسة الشيخ عبد العزيز الثعالبي وتقوية الشق العلماني والطبقة السياسية المفرنسة في هذا السياق وأيضا وأد تجربة صوت الطالب الزيتوني والتضييق عليه وعلى رموزه وأطروحاته الفكرية والسياسية والتي انتهت بسن دستور ذي طبيعة ملكية دستورية بمرجعية إسلامية لدولة الاستقلال صاغه المناضل الشيخ محمد الفاضل بن عاشور والذي تتكتم عنه النخبة العلمانية إلى اليوم . كما يأتي اغتيال المناضل النقابي فرحات حشاد مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل وهو الشريك في التأسيس مع الشيخ محمد الفاضل بن عاشور الرئيس الشرفي لاتحاد الشغل.
بعد الاستقلال وفي ذات السياسة تم إزاحة المناضل الزعيم الوطني ذي النزعة العروبية الإسلامية يوسف بن صالح من طريق التيار البورقيبي حامل لواء المصالح الفرنسية الثقافية والسياسية والاقتصادية. وتقريبا في نفس الفترة الزمنية تم أيضا إزاحة آخر نفس زيتوني مناضل وهو الشيخ محمد الصالح النيفر وذلك بإبعاده إلى الجزائر، والذي كان من مؤسسي الجماعة الإسلامية آنذاك حزب حركة النهضة الآن.
بقطع النظر عن الاتهامات الملقاة على الجهة الفرنسية في الضلوع بهذه الأحداث أو التستر عنها أو دعمها فإن توجه هذه الأحداث كلها تصب في الثابت الدبلوماسي والسياسي لفرنسا الذي تكلمنا عنه في البداية. وهو الحضور الثقافي والاقتصادي والسياسي والعسكري إذا اقتضى الأمر في الجنوب المتوسطي بما يضمن الامتداد الحيوي لفرنسا الكبرى سواء في الساحل الشمالي لإفريقيا أو في عمقها.
امتدت هذه السياسة الفرنسية في تونس فترة الحكم البورقيبي بأيادي تلاميذها النجباء من خلال تهميش التيار الهووي فلقد منعت السلطة التونسية منح الترخيص لتأسيس حزب الاتجاه الإسلامي سنة 1981 في حين منحت الرخصة للحزب الشيوعي سليل الحزب الشيوعي الفرنسي في تونس وانتهى هذا التهميش إلى التصادم مع النظام قبل انقلاب بن علي وبعده وأسفر الصراع عن محرقة لكل أبناء المشروع الإسلامي لمدة عشرين سنة تم فيها ممارسة كل أصناف التعذيب والتنكيل والسجون والتهجير وقطع الارزاق.
2) فرنسا ومشروع الشيخ راشد الغنوشي
اندلعت الثورة التونسية في 14 جانفي سنة 2011 فسمحت لكل الاطياف السياسية بالرجوع إلى مربع الفعل السياسي ولكن لا المجتمع السياسي التونسي ولا المجتمع المدني سامح فرنسا دعمها اللامشروط النظام الفاشي التونسي وقمعه للثورة التونسية إلى آخر أيام بن علي ولا فرنسا اعتذرت عن وقوفها ضد صف الشعب التونسي في محنته مع دكتاتورية بن علي ورغبته في التحرر من أغلال الاستبداد والفساد.
تسلمت حركة النهضة برئاسة زعيمها الأستاذ الشيخ راشد الغنوشي زمام الحكم بعد الثورة إثر فوزها بأول انتخابات شفافة ونزيهة في تونس سنة 2011. كانت هذه النتائج رسالة واضحة من الشعب التونسي أنه كل ما توفرت الحرية وخلي بينه وبين إرادته الحرة إلا واختار الحزب الذي يعبر عن هويته وعن تاريخه وضميره وبات واضحا لفرنسا ضمور المشروع البورقيبي الذي أسست له منذ قرن لدى الضمير التونسي.
يمثل مشروع الشيخ راشد الغنوشي السياسي والثقافي تحديا كبيرا للسياسة الفرنسية في تونس لعدة اعتبارات أولها الصبغة الوطنية لمشروع حركته فهي تترجم الضمير التونسي المستقل المتحرر الذي يناكف عن المصالح الوطنية التونسية ولا يتوانى في التضحية سجنا ونفيا وتهجيرا وتعذيبا في سبيل تحقيق السيادة الوطنية وتحرير قرار المواطن التونسي في ظل دولة ديمقراطية متصالحة مع الحريات العامة والحريات الفردية من جهة واستقلال القرار السياسي للدولة التونسية من جهة أخرى. ثانيا تتجه البوصلة الدبلوماسية والعلاقات الدولية للشيخ إلى الفضاء العربي والإسلامي مشرقا ومغربا أكثر من الميولات الدبلوماسية الأوروبية أو الفرنسية على عكس النخبة التونسية ذات الميولات الفرنسية على المستويين الثقافي والسياسي. ثالثا تنتمي حركة النهضة في عمقها الحضاري إلى الحضن الإسلامي بتراثه وتاريخه ومجده وعمقه الاستراتيجي وقضيته المركزية وهي تحرير فلسطين ومقاومة الاحتلال الصهيوني. رابعا الانتماء الثقافي والمشروع الفكري للشيخ راشد يقوم على أساس المرجعية الإسلامية التي تستند إلى قيم الإسلام ومبادئه وثوابته في الممارسة السياسية والبرنامج السياسي والاقتصادي لحزب حركة النهضة، الشيء الذي لا يتماشى مع التوجهات العلمانية للثقافة والسياسة الفرنسية التي ترفض إقحام المعطى الديني في المعترك السياسي وتفصل الدين عن الدولة.
ويعد هذا السبب من أكثر أسباب الفجوة بين مشروع الشيخ راشد والمؤسسة الفرنسية بكل أبعادها. خامسا، التقاء الشيخ راشد في مشروعه الوطني مع المشروع التركي الذي يقوده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والذي يمثل خطرا استراتيجيا على مصالح فرنسا في تونس وفي الفضاء العربي لإسلامي إذ تعتبر فرنسا أنها وريثة الإمبراطورية العثمانية في جنوب البحر المتوسط وأماكن أخرى من العالم العربي مثل سوريا ولبنان، وليس أكثر برهنة على ذلك وجود وزير الخارجية الفرنسي بيكو مع وزير الخارجية البريطاني سايكس على راس مشروع تقسيم العالم العربي سنة 1919 الذي كان جزءا من الإمبراطورية العثمانية رجل أوروبا المريض آنذاك.
كل هذه المواصفات في مشروع الشيخ راشد الغنوشي جعلت فرنسا تتوجس منه خيفة وتحاصره بعدم دعمه سياسيا ودبلوماسيا حيث لم يتلق الشيخ راشد ترحيبا من الدبلوماسية الفرنسية ولم تتم دعوته بصفة رسمية من السلطات الفرنسية رغم أن كل العالم تقريبا رحب به بوصفه أحد أبرز الشخصيات الممثلة للثورة التونسية وصاحب فكرة التعايش بين الإسلاميين والعلمانيين وذلك بتشريك أحزاب علمانية التوجه في حكومة الترويكا التي ترأسها حركته بل كان من الثابت عند بعض المحللين تشجيع حلفائها في الداخل التونسي على تعطيل مشروع حركة النهضة والعمل على إخراجه من اللعبة السياسية التونسية.
3) فرنسا وإحياء البورقيبية الجديدة
لكن فرنسا لم تسلم في مشروعها الهادف إلى التموقع في الفضاء المغاربي وخاصة مجالاتها الاستعمارية القديمة فشغلت فرنسا ماكينتها الإعلامية المناهضة لكل جديد في المنطقة يكون ريعه على حسابها واستنسخت مشروعا جديدا إحيائيا للبورقيبية وضعت على رأسه أحد تلاميذ بورقيبة ووزيره السابق والذي صادف معه الشبه المرفولوجي مضاف إليه البراعة الخطابية فصعد في الساحة السياسية رجل فرنسا الجديد الباجي قائد السبسي صعودا صاروخيا أوصله إلى دفة الرئاسة سنة 2014.على خلفية معارضة مشروع حركة النهضة ومناهضتها.
تنفست فرنسا الصعداء بهذا الإنجاز خاصة وأنها كانت الراعية لحوار الشيخين في باريس في ماي من نفس السنة 2014. جاء لقاء باريس بين الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة والشيخ الباجي قائد السبسي (أخذ صفة الشيخ باعتبار السن فقط ) في ظروف |إقليمية ووطنية صعبة جدا لم تكن فيها الرياح مواتية للمفاوض الزعيم راشد الغنوشي، لقد كانت رياح ساحة التحرير في مصر وساحة الميدان ومجزرة رابعة تلفح ساقين الشيخ تحت طاولة المفاوضات مع الباجي وكان انقلاب السيسي وسجن محمود مرسي الرئيس المنتخب ديمقراطيا تضعف موقف المفاوض الإسلامي، بينما كان الباجي يفاوض بأريحية فكل الظروف مواتية وتعمل لصالحه وحتى ميدان معركة التفاوض باريس عاصمة فرنسا أين تخرج محاميا أيام الاستعمار الفرنسي يخدم لفائدته، كما أنه يستند إلى اعتصام باردو الذي تم التجييش له من كل الاطياف السياسية المعادية لحركة النهضة ولتجربة الترويكا مع دعوات للانقلاب على التجربة الديمقراطية التونسية ومحو أثار الثورة التونسية في محاولة لاستنساخ المثال المصري لاقتلاع الحركة الإسلامية. أضف إلى ذلك ثقل الادعاء على حزب حركة النهضة ضلوعها في اغتيال المناضل السياسي اليساري شكري بلعيد. والذي اشتغلت عليه الآلة اليسارية لتعبئة الشارع ضد حركة النهضة وخنق مناوراتها السياسية ووضعها في مربع الدفاع والاستسلام.
4) ماذا تغير في سنة 2019؟ أو دوافع المصافحة
في عالم السياسة المتغيرات والمفاجآت كثيرة، لم تكن فرنسا تتوقع الانهيار السريع لمشروع البورقيبية الجديدة وإلى رمزه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي تحت وطأة الفعل السياسي الرصين للشيخ راشد وحركته بفعل الحنكة السياسية وبفعل وحدة الصف الداخلي للحركة. بينما تمزق المشروع البورقيبي الجديد إلى أشلاء وشظايا حزبية صغيرة وتشققات ذرية بلغت الخمسة شقوق (حزب المشروع يرأسه محسن مرزوق، حزب بني وطني يرأسه بالحاج، حزب نداء تونس تيار الحمامات يرأسه سفيان طوبال، حزب نداء تونس تيار المنستير يرأسه حافظ قائد السبسي، حزب تحيي تونس يرأسه يوسف الشاهد….).
حازت حركة النهضة سنة 2018على جل البلديات في الانتخابات البلدية الأخيرة وجاءت في المرتبة الأولى من حيث عدد البلديات ومن حيث الأصوات وعد المتساكنين البالغ خمسة ملايين مواطن تحت تجربة الحكم المحلي برئاسة حزب حركة النهضة. بلغت نسبة حركة النهضة 30في المائة من أصوات الناخبين وتقريبا الأربعين بالمائة من عددا لبلديات بينما حصل نداء تونس حزب الرئيس الباجي على المرتبة الثانية بنسبة بعيدة عن حركة النهضة في حدود 21 بالمائة. ويعتبر هذا الامتحان الأول الديمقراطي لمشروع البورقيبية الجديدة بعد ترتيبات لقاء باريس منذ 2014.
تعطي سبر الآراء للمؤسسات الموثوقة السبق في نوايا التصويت للانتخابات التشريعية المقبلة لسنة 2019 حيث أفاد سبر أراء أجرته مؤسسة “أمرود كونسلتينغ”، نشرته جريدة الصباح، الأربعاء 27 فيفري 2019، أن حركة النهضة تتصدر نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية المقرر تنظيمها أكتوبر الجاري، بنسبة 18.8 في المائة تليها حركة نداء تونس قبل الانقسام الأخير نسبة 9.8 في المائة وخلفها حزب تحيي تونس قبل انجاز مؤتمره بنسبة 3.9 في المائة.
هذا على المستوى الداخلي والذي يعتبر لوحده مصدر إزعاج للسياسة الفرنسية ولخطورة المس بمصالحها في تونس ثقافيا واقتصاديا أما على المستوى الإقليمي فقد حصلت تطورات في الجارتين الجزائر وليبيا جعلت الدولة الفرنسية في قلق كبير على مصالحها وعلى حياتها الوجودية بالمعنى السارتري.
يبدو أن فرنسا أخفقت في رهانها على حفتر لقلب الأوضاع لصالحها في ليبيا بعملية عسكرية مباغتة أرادت بها قلب الطاولة على الشق المناهض لها في طرابلس واستباق المؤتمر الجامع بغدامس والذي تعتقد فرنسا أن ليس لها فيه ما يحقق أهدافها في المنطقة وأن مصالحها غير ممثلة فيها ومن ثم فإن فرنسا بدأت تضيع الوجود الميداني على الساحة الليبية بما يخرجها رويدا من فضاء جنوب المتوسط ذلك الفضاء الوجودي لها. ومما زاد تبعثر أوراق فرنسا في الملف الليبي تدخل العدو التاريخي اللاعب التركي اللاعب الإقليمي الجديد لميدان المعركة وتقديمه المساعدة العسكرية لحلفائه في ليبيا تفعيلا لاتفاقية الشراكة الأمنية بينه وبين حكومة الوفاق الشرعية حكومة السراج.
لم تكتف الأوضاع الفرنسية تعكرا في منطقة شمال إفريقيا بل زاد الحراك الشعبي الجزائري في بداية 2019 الطين بلة، فلقد كانت أغلب شعارات الحراك معادية للوجود الفرنسي على التراب الجزائري من خلال رفض سماسرة الدولة الفرنسية في الدولة الجزائرية، هكذا عبر الشعب الجزائري المنتفض على النظام الجزائري وبعض قيادته العسكرية المتهمة بخدمة الأجندة الفرنسية غير الوطنية. لقد اتضح من خلال هذا الحراك توسع منسوب كراهية الشعب الجزائري للتدخل الفرنسي في السياسة الداخلية والشأن العام الجزائري. تخشى فرنسا من مآل الحراك الشعبي الجزائري الذي سيكون بمثابة الضربة القاسمة لوجودها الحيوي لو تخسر موقعها الاستراتيجي في الجزائر وبذلك تسقط كل الجهود التي قامت بها منذ قرنين من أجل التمركز في جنوب حوض المتوسط.
5) امتحان النوايا بين الغنوشي وفرنسا
يمكن القول إن العقل الفرنسي الدبلوماسي بدأ يميل من الدبلوماسية الثابتة والمبدئية إلى نوع من البراغماتية على غرار الدبلوماسية الإنجليزية عبر العصور التي تحقق أهدافها ومصالحها بقطع النظر عن إيديولوجيات الشعوب التي تتعامل معها وأن عالم السياسة لا يعترف بالعداوات أو الصداقات الدائمة. أظن أن فرنسا بدأت تعي أن الشيخ راشد الغنوشي وحزبه هو دعامة الاستقرار في تونس وأنه الحزب الأقوى في المعادلة السياسية التونسية وهو المرشح الأكبر لحكم تونس في السنوات القادمة، وأن أي مصالح فرنسية لا يمكن أن تمر دون رضا الطرف الأقوى في تونس.
ترجمة لهذا الوعي المتأخر للخارجية الفرنسية دعت فرنسا الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة إلى زيارة فرنسا وهي الدعوة الأولى من نوعها. يبقى السؤال الذي يتبادر إلى المحللين السياسيين ما مغزى هذه المبادرة الفرنسية الاحتوائية في هذا التوقيت؟ هل تمثل هذه الدعوة منعرجا في السياسة الخارجية الفرنسية ومن ثمة يصبح الشيخ راشد صديقا لفرنسا ويصبح مشروعه السياسي والاصلاحي مقبولا لدى السلطات الفرنسية أم هي مجرد أسلوب لإدارة مخاطر انزلاق سياسة التواجد في جنوب البحر المتوسط والتي تشكل اوكسجين الامة الفرنسية وأكسير الحياة لها؟ وهل هذه المصافحة الفرنسية للشيخ الغنوشي اعترافا حقيقيا بقدرات الشيخ الدولية على مساعدة فرنسا على تأمين مصالحها من خلال علاقات الشيخ القوية وسمعته الدولية لدى قوى الحراك الشعبي الجزائري الذي يشترك فيه أكثر من عشرة أحزاب إسلامية تحترم الشيخ راشد ولها صداقات وعلاقات متنيه معه. أم هو اعتراف أيضا بقدرة الشيخ راشد على قلب الموازين الإقليمية بما أدركته أخيرا من دوره في إسناد حكومة طرابلس من خلال وساطته وضغطه على قوى دولية من أجل إسناد حكومة الوفاق ذات الشرعية الدولية. الحقيقة عندي أمل كبير في أن فرنسا فهمت دور الشيخ راشد الحاسم في الملف الليبي ودوره الممكن في الجزائر. وأكثر من ذلك فهو رجل تونس المستقبل. أملي أن تقوم فرنسا بالمنعرج الاستراتيجي في علاقتها بالحركة التونسية الوطنية ذات المرجعية الإسلامية وطي صفحة الماضي، وأن تبدأ صفحة جديدة قائمة على احترام إرادة الشعوب بالمنطقة وهويتها وتغليب التعاون المشترك على أساس الندية والاحترام المتبادل وليس الهيمنة والتدخل.
أما حركة النهضة فمن جهتها تتنزل زيارة رئيسها الشيخ راشد في إطار تفعيل ما رسمته الحركة من ضرورة انتهاج “سياسة دبلوماسية نشيطة للحيلولة دون عزل حركة النهضة وربط علاقات تفاهم وتعاون وتحالف مع القوى الإقليمية والدولية غير المندرجة في استراتيجية الارباك والسعي في تحييد الأطراف المرشحة للانخراط في هذه الاستراتيجية”. وتأتي أيضا في إطار تأمين و”تثبيت الاندماج الاستراتيجي الآمن للتجربة التونسية في محيطها الإقليمي والدولي”، كما تأتي أهمية هذه الخطوة في “الحفاظ على علاقات التواصل والتعاون مع الأطراف الدولية التي لها صلات قوية مع تونس بحكم ميراث التاريخ وثقل المصالح”.
6) ماذا أفضت المصافحة التاريخية بين الغنوشي وفرنسا
بحسب جدول أعمال الزيارة فإنها شملت لقاءات مع مسؤولين في الرئاسة( لقاء مع المستشار الديبلوماسي لدى الرئيس ماكرون, السيد أورليان لوشوفاليه) ورئاسة الحكومة ووزارة الخارجية(لقاء مع كاتب الدولة للخارجية السيد جان بابتيست لومواني و لقاء مع طاقم إدارة شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بوزارة الخارجية) والجمعية الوطنية (البرلمان) ومجلس الشيوخ الفرنسي ومجموعة من رموز السياسة الفرنسية ( .لقاء مع السيد جان بيار رفاران, الوزير الأول الأسبق ورئيس منظمة “قادة من أجل السلام” ولقاء مع السيد جان بيار شوفانمان: الوزير الأسبق ورئيس مؤسسة ريسبوبليكا) ولقاء مع لجنة الصداقة الفرنسية التونسية بالبرلمان, ورئيسها السيد جيروم لمبار.
وبحسب الاخبار المتداولة فإن الأستاذ راشد والوفد المرافق له حرصوا على “تأكيد استراتيجية العلاقة بين تونس وفرنسا وعراقتها. وبينوا أهمية التعايش بين مختلف أطياف وروافد الساحة السياسية التونسية من خلال مبدأ التوافق الذي أصبح سمة التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي. كما أكدوا على حاجة المنطقة الى الاستقرار والأمن والتعاون من أجل تحقيق خير الشعوب في التنمية والرفاهية والحرية وخير الدول في مزيد الديمقراطية والاستقرار والسيادة”. وأبلغ ما جاء على لسان الأستاذ راشد في هذه الزيارة قوله في جملة تحمل مغازي كبيرة وهي دعوته فرنسا كشريك مهم لتونس الى الاستثمار في الديمقراطية والاستقرار لأن في ذلك مصلحة للبلدين.
أما من الجانب الفرنسي وبحسب ذات المصادر الإخبارية “فقد ثمنوا دور الفاعلين السياسيين في تونس وخاصة حركة النهضة في إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي وما تميزت به من حكمة وواقعية في التعاطي مع التطورات السياسية، وما نجحت فيه من بلورة وتنزيل لمبدأ التوافق والمحافظة على استقرار المؤسسات والمحافظة على الوحدة الوطنية تأكيد حرص فرنسا على مزيد تطوير التعاون والدعم لتونس وتجربتها”. لكن هل أفضت هذه الزيارة فقط هذه اللقاءات التي تعتبر خرقا كبيرا للفيوتهات العلمانية التونسية أم أن هناك أمور أخرى جرت في الكواليس مثل ما حصل في نفس الشهر من سنة 2014 مع الأستاذ الباجي قائد السبسي؟ في هذا الصدد إذا حدث شيء من هذا القبيل فإن الشيخ راشد سيجد نفسه أقوى من المفاوضات السابقة لأن ميزان القوى الداخلية والريح الآتية من دول الجوار تهب نسيما لصالح المفاوض المتمرس الاستاذ راشد الغنوشي. ويبقى مع ذلك السؤال الشرعي كم من مكاسب سياتي بها كعادته لأجل الوطن وسيادته ولأجل مشروعه الإصلاحي؟
الخاتمة
يحق بعد هذه المصافحة التاريخية بين فرنسا والشيخ راشد طرح السؤال المتوقع هل بعد هذه الزيارة تلقى فرنسا السند من الزعيم الشيخ راشد الغنوشي في الإبقاء على مصالحها في منطقة شمال إفريقيا وتضفي المزيد من الاكسجين على تموقعها في محيط جنوب البحر المتوسط على قاعدة احترام الشعوب وتراثهم وهويتهم وتبادل المصالح في كنف الندية والاحترام بما يملك من قدرات دبلوماسية وسمعة لدى أهل القرار في هذه البلدان الشقيقة؟ وهل تلقى حركة النهضة وزعيمها السند الدبلوماسي لها وللتجربة الديمقراطية التونسية وتفك فرنسا من حولها الحصار ويرفع من فوقها الفيتو فتصبح صديقا استراتيجيا تقبل بمشروع زعيمها الإصلاحي الإسلامي الديمقراطي؟
*كاتب تونسي وباحث بمركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية (Cérès)
أحدث التعليقات